الكورد بين خديعة السلام التركي وضرورة جبهة التحرر القومي

شهدت تركيا في العقد الأخير محاولة بارزة لإيجاد حل سياسي للقضية الكوردية عبر ما سُمّي بـ”عملية السلام” مع عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكوردستاني المعتقل منذ عام 1999. هذه العملية التي انطلقت تحت شعار إنهاء الحرب الداخلية وفتح صفحة جديدة من الديمقراطية، قدّمت نفسها كفرصة تاريخية لإغلاق جرحٍ دام لعقود طويلة. غير أنّها انتهت بالفشل، تاركة وراءها شعوراً عميقاً بالخذلان لدى الشعب الكوردي، ومؤكدة أنّ الدولة التركية لم تكن جادة في منح الكورد حقوقهم القومية والسياسية.

لقد مثّل الاتفاق مع أوجلان لحظة فارقة، إذ دعا الأخير من سجنه إلى وقف إطلاق النار والانتقال إلى العمل السياسي السلمي، فيما وعدت الحكومة التركية بإصلاحات دستورية واعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية. لكن سرعان ما تبيّن أنّ هذه الوعود لم تكن سوى أوراق انتخابية، وأنّ الدولة التركية لم تكن مستعدة لتقديم تنازلات حقيقية. ومع انهيار العملية عام 2015، عادت الحرب المفتوحة في باكور، وتعرّضت مدن كوردية للتدمير والتهجير، فيما أُعيد إنتاج سياسة الإنكار والقمع بأشكال أكثر عنفاً.

في المقابل، برزت روج آفا في شمال سوريا كواقع جديد، حيث استطاع الكورد هناك بناء إدارة ذاتية في ظل انهيار الدولة السورية، ونجحوا في مواجهة تنظيم داعش، مقدّمين نموذجاً مختلفاً يقوم على الديمقراطية المحلية والمشاركة المجتمعية. هذا النموذج ألهم كورد باكور، وأثار في الوقت نفسه مخاوف تركيا من قيام كيان كوردستاني مستقل على حدودها، فزاد من تشددها في الداخل والخارج.

إنّ العلاقة بين روج آفا وباكور ليست مجرد علاقة جغرافية، فهي امتداد طبيعي للهوية الكوردية المشتركة عبر الحدود، من لغة وثقافة وعشائر وروابط اجتماعية. ومع ذلك، من الضروري الفصل بين المسألة الكوردية في تركيا والمسألة في سوريا. ففي تركيا، القضية مرتبطة بحقوق المواطنة والدستور والاعتراف بالهوية داخل دولة قائمة، بينما في سوريا ترتبط بالفراغ السياسي الذي أتاح للكورد فرصة بناء كيان إداري جديد، في ظل صراع دولي معقّد. هذا الفصل ضروري لفهم طبيعة كل ساحة، وتحديد الاستراتيجيات المناسبة لكل منها.

رغم هذا الفصل، فإنّ وحدة الصف الكوردي تبقى حاجة ملحّة. لقد أثبتت التجارب أنّ الانقسامات الداخلية تضعف الموقف أمام العالم، وأنّ غياب جبهة وطنية موحدة يجعل الكورد يظهرون كأطراف متفرقة لا كأمة واحدة. لذلك، تقع على عاتق المسؤولين الكورد في روج آفا مسؤولية تاريخية بالجلوس على طاولة واحدة، وتجاوز الخلافات الحزبية، وتشكيل حركة تحررية جامعة تقدّم نفسها إلى العالم كممثل شرعي للشعب الكوردي. هذه الحركة يجب أن تحمل مشروعاً قومياً واضحاً، يربط بين الداخل والخارج، ويؤكد أنّ الكورد أمة واحدة لها حق تقرير المصير، وأنّ هذا الحق يجب أن ينتهي بالاستقلال السياسي أو الفيدرالية المعترف بها دولياً، وفقاً لإرادة الشعب الكوردي.

إنّ الاتفاق التركي مع أوجلان كان فرصة ضائعة، لكنه كشف أنّ الحل العسكري لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. وظهور روج آفا أثبت أنّ الكورد قادرون على إدارة أنفسهم وبناء نموذج سياسي واجتماعي ناجح. التحدي اليوم هو تحويل هذه النجاحات المحلية إلى مشروع قومي شامل، يضع الكورد في موقع الشعوب المناضلة من أجل الحرية، ويقدّم للعالم صورة موحدة لشعب يستحق أن يُعترف به كأمة لها حقها الطبيعي في تقرير المصير ونيل الاستقلال.
.
“بيوراسب “